الدولة الإسلامية الأولى .. تأسيسها وعوامل نجاحها
كتب: د/ محمد السيد الوكيل
1- الهجرة:
أمعن أهل مكة في اضطهاد المؤمنين، وزادوا في تعذيبهم، وسدوا المسالك في وجوههم، فلم يعد أمامهم سبيل إلى النجاة إلا بترك بلادهم وأموالهم وعزم المسلمون المعذبون على أن يشتروا عقيدتهم بما يملكون من متاع الدنيا، وأن يضحوا في سبيلها بكل شيء، ولو كان ذلك الشيء هو الوطن الغالي على النفوس ، ولو كان هذا الشيء هو الأهل الذين هم أعز شيء في الدنيا على الإنسان، ذلك لأن الأرضوالناس الذين يعيشون عليها لم تعد وطن المؤمن، ولا سكانها أهله فقد جعل الإسلام معالم جديدة للوطن والأهل، وتركزت تلك المعالم في قلوب المؤمنين.
لقد أصبح وطن المؤمن هو العقيدة التي يؤمن بها، وأصبح أهل المؤمن وإخوانه هم أولئك الذين يعتنقون تلك العقيدة، ويشاركونه سراءه وضراءه، إن عقيدة المؤمن أعز عليه من الأرض والأهل، وما الأرض؟؟ إنه يستطيع أن يجدها في كل مكان يحل فيه، وما الأهل؟ إنه سيجد في إخوانه المسلمين عوضا عمن فارق من الأهل، ولكنه لن يجد عوضا عن عقيدته إذا فقدها.
من أجل هذا ضحى المسلمون بالوطن والأهل والمال والولد فرارا بدينهم وعقيدتهم ، ولكن إلى أين يتجهون؟ فليذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكا لا يضام من نزل بجواره ، وكانت الحبشة هي وجهة القوم، وهناك وجدوا الأمن والسلام، وراحة الجسم وهدوء البال، ولكنهم مع ذلك لم يجدوا بغيتهم، فليست الغاية من الهجرة الخلود إلى الراحة واقتناص فرص الأمن والطمأنينة، وإنما هي خطوة إيجابية لنشر الدعوة، وتثبيت العقيدة، وإقامة الدولة التي هي أمل المؤمنين، وليست أرض الحبشة ميدانا لهذا العمل الجليل، لقد خبروها بأنفسهم، وعاشوا فيها بطاقاتهم، فلم يجدوا فيها من الدلائل ما يبشر باستعدادها لتحتضن تلك الدولة، وتمنحها فرص الحياة.
لقد ثار أهلها على النجاشي لما سمعوا منه ما يدل على تصديقه للرسول صلى الله عليه وسلم ، فكيف يسمحون بنشر الدعوة وإقامة الدولة؟؟ لا بد من البحث عن مكان صالح يلجأ إليه المهاجرون.
وكان موسم الحج، وكان لقاء العقبة، وسنحت يومئذ الفرصة فاهتبلها المسلمون، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه مع أهل يثرب يعلمهم القرآن، ويفقههم في الدين، وفتحت يثرب ذراعيها للوافدين من المؤمنين.
2- عقبات في الطريق:
لم يرض أهل مكة أن يخرج المسلمون منها إلى أي مكان ولو تركوا أموالهم وديارهم، لذلك وضعوا العقبات في طريق المهاجرين، وحالوا بينهم وبين ما يريدون، واستعملوا في منعهم شتى الحيل.
فعندما أراد صهيب بن سنان الهجرة تصدوا له، وقالوا: "أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك والله لا يكون ذلك"، فقال لهم صهيب: "أرأيتم إن جعلت لكم مالي، أتخلون سبيلي؟" قالوا: "نعم"، قال: "فإني جعلت لكم مالي".
وهذا عياش بن أبي ربيعة، هاجر وبلغ المدينة، ولكن أهله لم يسكتوا على ذلك، فخرج في إثره أبو جهل ابن هشام، وأخوه الحارث بن هشام - وكان عياش ابن عمهما وأخوهما لأمهما - فلما قدما المدينة احتالا عليه، وقالا: "إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك"، فانخدع عياش بحيلتهما رغم نصيحة عمر بن الخطاب رضي الله عنه له وسار معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق أوثقاه وربطاه، وعادا به إلى مكة وفتناه، ودخلا به مكة نهارا موثقا، وقالا: "يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم، كما فعلنا بسفيهنا هذا".
ولما أراد أبو سلمة أن يهاجر رحل بعيره، وحمل عليه زوجته ومعها ابنها سلمة وهم بالخروج فرآه قوم أم سلمة، فقالوا له: "هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟".
ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا منه زوجه، فلما رأى قوم أبي سلمة ذلك قالوا: "لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا"، وتجاذبوا الصبي حتى خلعوا يده، وانطلق به رهط أبي سلمة.
وهكذا تشتت الأسرة، قوم أم سلمة حبسوها عندهم، ومنعوها من الخروج مع زوجها، وقوم أبي سلمة أخذوا الصبي الصغير عندهم نكالا في أم سلمة، وأبو سلمة ذهب وحده مهاجرا إلى المدينة(1) .
وإننا لنرى في هذه الأمثلة محاولات مستميتة لصد المؤمنين عن الهجرة، لا حبا لهم، ولا إشفاقا عليهم من وحشة الغربة وآلامها، ولكن لفتنتهم وصدهم عن سبيل الله، ولكن هيهات، فقد صمم المؤمنون على الفرار بدينهم، والتضحية بكل غال وعزيز لديهم حتى يبلغوا غايتهم.
وصل المهاجرون إلى المدينة تباعا، وهاجروا جامعات وفرادى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم في مكة ينتظر أمر ربه، وحين أذن له في الهجرة اصطحب أبا بكر رضي الله عنه وودعا مكة، وسارا إلى المدينة، ودخلاها في يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى(2) وبدت الشمس في كبد السماء(3).
واستقبل الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه ومن قبلهما المهاجرين من المسلمين بالحفاوة والتكريم، وأحلوهم من أنفسهم محل التبجيل والتوقير، وآثروهم على أنفسهم، وقاسموهم لقمة العيش، وعوضوهم عما فقدوا برا ومحبة وإخلاصا.
3- اسم جديد ليثرب:
سكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة، وكانت تعرف عند العرب بيثرب، ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الاسم، وكأنه لمح فيه معنى التثريب - وهو اللوم والتوبيخ - فغير اسمها وسماها المدينة.
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي المدينة، تنفي الناس، كما ينفي الكير خبث الحديد".
والمعروف عند المؤرخين المسلمين أن يثرب ليس اسما للمدينة، وإنما هو اسم لقرية كانت تقع في الشمال الشرقي لجبل سلع بينه وبين وادي قناة، وهي المنطقة التي كان يسكنها جماعات من العرب العماليق قبل مجيء اليهود.
يقول السمهودي: "ونزل جمهورهم - أي اليهود - بمكان يقال له يثرب بمجتمع الأسيال مما يلي زغابة"(4) .
ويقول ابن النجار: "يثرب اسم أرض، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم في ناحية منها"(5) ويروي عن ابن زبالة أنه قال: "لو كانت يثرب أم قرى المدينة ما بين طرف قناة إلى طرف الجرف، وما بين المال الذي يقال له البرناوي إلى زبالة"(6) .
ولعل إطلاق اسم يثرب على المدينة تغليبا للاسم ؛ لأنه كان اسم أكبر قرية في المنطقة كما نقل ابن زبالة.
والذي يظهر لي أن اسم المدينة ليس اسما جديدا على يثرب، وإنما هو اسم أطلق عليها من قديم الزمان، يقول الدكتور جواد علي: "وعرفت بالمدينة كذلك من كلمة (مدينتا) الإرمية التي تعني (مدينة) في عربيتنا"، ثم يقول: "ويظهر أنها عرفت بمدينة يثرب، على نحو ما وجدنا في كتاب (اصطيفان البيزنطي) ثم اختصرت فقيل لها (مدينتا) أي (المدينة) ولما نزل بها الرسول عرفت بمدينة الرسول في الإسلام"(7).
ويزعم صاحب الرحلة الحجازية أن اسم يثرب تحريف عن الاسم المصري القديم (أثربيس) كما أن (طيبة) أطلق على المدينة نقلا عن طيبة المصرية، والذي دعاه إلى ذلك هو اعتقاده بأن اليهود هم الذين أطلقوا عليها الاسمين، وهم نقلوهما من مصر عند خروجهم منها في زمن موسى عليه السلام.
والتحقيق الذي ذكرته لاسم يثرب يتعارض مع ذلك، لأن اليهود قدموا الحجاز والبلدة معروفة باسم يثرب، كما أن اسم طيبة لم يعرف إلا بعد تسمية الرسول لها بذلك الاسم، ولهذا لم يطلق اسم طيبة عليها في المصادر القديمة التي ذكرتها قبل الهجرة.
وحيث ثبت بالتحقيق العلمي أن البلدة عرفت من قديم الزمان باسم يثرب، كما عرفت باسم المدينة فيما نقله الدكتور جواد عن اصطيفان البيزنطي فإن معنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكون قد نهى عن تسميتها يثرب لما فيه من معنى التوبيخ واللوم، وأقر تسميتها المدينة على ما كانت عليه، وزاد على ذلك فسمى سكانها الأنصار، وسماها طيبة وطابة (
.
4- عوامل نجاح الدعوة في المدينة:
لم تأخذ الدعوة الإسلامية وضعها الطبيعي في مكة، ولم تهيأ لها الظروف التي تستطيع فيها أن تأخذ طريقها إلى قلوب الناس، وذلك لأن أهل مكة حسدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما آتاه من فضله، وقالوا: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}(9) ودفعهم هذا الحسد إلى الوقوف في وجه الدعوة وصرف الناس عنها بالإيذاء والتعذيب تارة، وبافتراء التهم والأكاذيب تارة أخرى.
وعاش المسلمون في مكة أصعب فترة في حياتهم، عاشوا مهددين في أرواحهم محرومين من حقوقهم، يتوقعون نزول الموت أكثر مما يأملون من الحياة، وكان هذا الموقف من المشركين من أكبر العوامل على توقف تيار الدعوة في مكة، وأعظم مؤثر في صد الناس عنها، حتى كانت القبائل ترد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يعرض عليها الإسلام بقولها: "أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك"0( 10 ).
وعلى العكس من موقف أهل مكة كان موقف أهل المدينة من الدعوة الجديدة، فقد تهيأت في المدينة الظروف، واستعدت النفوس لقبول الدعوة ، وتوفرت الدواعي التي مهدت لاستقرار الدين في القلوب ، فلم يكد رسول الله يعرض نفسه ويشرح دعوته للنفر الذين قدموا من المدينة حتى اشرأبت له الأعناق، وتطلعت إليه القلوب، وأقبل عليه أهل المدينة مخافة أن يسبقهم إليه اليهود ، وتتلخص عوامل نجاح الدعوة في المدينة فيما يأتي:
أ- تهيؤ الأذهان لاستقبال الدين الجديد:
كان وجود اليهود في المدينة سببا من أسباب تهيئة الجو، وإعداد النفوس لتقبل الدين الجديد، فقد كانوا أهل كتاب، وكانوا ينشرون تعاليم دينهم، ويعيبون الوثنية وأهلها، ويخوفون الناس من يوم تشتد فيه الأهوال، وكانوا كلما توترت الأوضاع بينهم وبين العرب يتوعدونهم بظهور نبي آخر الزمان، وأنه سيبعث بدين سماوي يوافق دينهم، ويكسر الأصنام، ويحارب من يعبدها.
كذلك كانت الخصومة بين اليهود وبين الأوس والخزرج سببا آخر من أسباب استعداد العرب للدخول في هذا الدين ، حيث اليهود يهددون العرب بأنهم سينضمون إلى هذا النبي عند ظهوره، وسيقتلونهم معه قتل عاد وإرم (11).
لا شك أن تعاليم الدين اليهودي، وترديد ذكر يوم القيامة وما فيه من حساب وعقاب وجنة ونار ، والتنديد بالأصنام، والاعتراف بوجود إله واحد لا شريك له، كل ذلك كان تهيئة للنفوس، وشحذا للعقول، ومقدمة جيدة لاستقبال تعاليم الدين الجديد، لأن الذي سيلقى عليها من تعاليمه لا يخرج عن ذلك، فتكون النفوس قد سمعته وألفته.
كما كانت الخصومة بين العرب واليهود سببا من أسباب حرص العرب على الدخول في الإسلام ، فلم يكد رسول الله يعرض الإسلام على النفر الذين قدموا من المدينة للحج، ويدعوهم إلى الإسلام حتى قال بعضهم لبعض: "يا قوم، تعلموا والله إنه للنبي الذي تهددكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه" فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام (12 ).
ب- سيطرة الأوس والخزرج على المدينة:
كان الأوس والخزرج قبل الإسـلام قد سيطروا على الأوضاع الداخلية في المدينة، حيث تغلبوا على اليهود، وأخضعوهم لسلطانهم ،ورضي اليهود بالعيش معهم كموال لهم، وبذلك أصـبح موقف الأوس والخزرج في المدينة موقف السيد المسيطر، فهم لا يخافون أحدا، بل ولا يحسبون لأحد حسابا إذا عزموا على فعل شيء.
وكان نجاح الأوس والخزرج السياسي، وتسلطهم على مقاليد الأمور في يثرب سببا قويا من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية فيها ، حـيث دخلها الإسلام على أيد قوية، تملك التصرف في شئونها، وتستطيع أن تقرر مصيرها دون أن ترجع إلى غيرها في ذلك، وبقبول الأوس والخزرج واستجابتهم لما دعاهم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون الإسلام قد دخل المدينة من باب واسع، لا يزاحمه فيه شـيء، ولا يستطيع أحد أن يعترض على دخوله إليها، أو يقف في طريق المؤمنين به.
وبذلك تكون الفرصة قد تهيأت لأن يستمع الناس للدين الجديد، وأن يتدبروه بعقول حرة لم تكبل بأغلال الظالمين الصادين عن سبيل الله، وكانت نتيجة ذلك أن أقبل الناس على الإسلام، واعتنقه السادة من القوم ودخل فيه المنصفون حتى من اليهود أنفسهم كعبد الله بن سلام ومخيريق.
جـ - حرب يوم بعاث:
دامت الحرب بين الأوس والخزرج زمنا طويلا، بدأت بحرب سمير وانتهت بحرب يوم بعاث، وقدر بعض المؤرخين الفترة التي دامت فيها تلك الحروب بمائة وعشرين عاما (13).
هذه الحروب أكلت قوة القوم، وذهبت بالكثير من رؤسائهم حتى لم يبق من الحيين سوى أفراد لم تكن لهم منزلة الزعماء السابقين ومكانتهم في قومهم، فقد كان هؤلاء الزعماء الذين أهلكتهم الحرب معتزين بشخصياتهم، كما كانوا موضع احترام وإجلال من أفراد قبائلهم، وكانت لهم الكلمة العليا في البلاد لا ينازعهم الرأي أحد ، ولا يتطلع إلى السيادة دونهم إنسان.
ولقد كان من المحتمل أن يكون هؤلاء الزعماء عقبة في الطريق إسلام قومهم كما كان زعماء مكة حين صدوا المستضعفين عن الدخول في الإسلام، وليس أدل على ذلك من موقف أبي الحيسر أنس بن رافع أحد زعماء الأوس، فإنه قد ذهب إلى مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل، فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف مع قريش على قومهم من الخزرج ، ولما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم وكلمهم، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن فقال إياس بن معاذ: "أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له"، عندئذ أخذ أبو الحيسر حفنة من تراب البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: "دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا" (14).
هذا موقف لأحد زعماء الأوس، أعرض فيه عن الإسلام، ومنع غيره من الحديث عنه، ولا شك أن غيره لن يكون أقل منه صدودا وإعراضا، لأنهم كانوا يحرصون على المحافظة على مراكزهم القيادية بين قبائلهم، ويرفضون أن ينازعهم فيها أحد.
وموقف آخر لزعيم من زعماء الخزرج - عبد الله بن أبي بن سلول - يحرض قومه على طرد المسلمين من المدينة، فيقول : "هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم".
وبلغ رسول الله ما قال ابن أبي، فغضب وسار بالقوم في وقت ليس من عادته أن يسير فيه، فكلمه أسيد بن حضير في ذلك، فقص عليه مقالة ابن أبي، فقال أسيد: "يا رسول الله، أرفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا"(15).
إن حرب بعاث قد قضت على هؤلاء الزعماء من الفريقين؛ ولم يبق هناك سوى زعماء من الطبقة الثانية، وهؤلاء قد اصطلوا بنار الحرب، وذاقوا ويلاتها، وسئموها وإنهم ليفكرون في الانتظام تحت قيادة رجل منهم، ولم يكن هناك غير عبد الله بن أبي وقد عزموا على أن يتوجوه، ويجتمعوا عليه.
بالقضاء على هؤلاء الزعماء، تمهد الطريق للإسلام، وبتبرم النفوس من حياة الحرب والخوف والقلق، وتطلعها إلى حياة آمنة مستقرة كان كل شيء قد تهيأ ليستقبل الإسلام والمسلمين.
د - الإيمان العميق:
ويتوج هذه الأسباب كلها ذلك الإيمان العميق الذي ملأ قلوب المهاجرين والأنصار على حد سواء، فقد كانوا واثقين بوعد الله لهم، وكانت المحنة التي عاشها المهاجرون تضاعف الإيمان في قلوبهم، لأنهم يعلمون أن هذا الطريق لا يمكن أن يكون ممهدا سهلا، فحياة الأنبياء كلها مشقات، حياة المصلحين كلها عقبات، وما داموا قد عزموا على السير في طريقهم، فلا بد لهم أن يتحملوا مثل تحملهم حتى تكون العاقبة لهم.
بهذا الإيمان العميق هاجر المسلمون من مكة، وبمثل هذا الإيمان استقبلهم الأنصار في المدينة، وبهذه العقيدة الراسخة ودعوا بلادهم وضحوا بالأموال والأولاد وبمثل هذه العقيدة الراسخة عوضهم الأنصار كل ما فقدوا فآثروهم بالأموال، وهيئوا لهم حياة الأمن والاطمئنان.
وكانت الأوضاع في المدينة قد تهيأت لقبول الدين الذي حمله إليهم المهاجرون، إن الإيمان العميق والعقيدة الراسخة يجعلان صاحبهما أقدر على تحمل التبعات والنهوض بأعباء الرسالة التي آمن بها، إنهم بالإيمان صبروا على أذى المشركين في مكة، وبالإيمان شقوا طريقهم في المدينة، وتحملوا لأواءها حتى قامت على أكتافهم دولة الإسلام.
المصدر : مجلة الجامعة الإسلامية العدد