( 1 ) هذه الحروف وغيرها من الحروف المقطَّعة في أوائل السور فيها إشارة إلى إعجاز القرآن؛ فقد وقع به تحدي المشركين، فعجزوا عن معارضته، وهو مركَّب من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب. فدَلَّ عجز العرب عن الإتيان بمثله -مع أنهم أفصح الناس- على أن القرآن وحي من الله.
( 2 ) ذلك القرآن هو الكتاب العظيم الذي لا شَكَّ أنه من عند الله، فلا يصح أن يرتاب فيه أحد لوضوحه، ينتفع به المتقون بالعلم النافع والعمل الصالح وهم الذين يخافون الله، ويتبعون أحكامه.
( 3 ) وهم الذين يُصَدِّقون بالغيب الذي لا تدركه حواسُّهم ولا عقولهم وحدها؛ لأنه لا يُعْرف إلا بوحي الله إلى رسله، مثل الإيمان بالملائكة، والجنة، والنار، وغير ذلك مما أخبر الله به أو أخبر به رسوله، (والإيمان: كلمة جامعة للإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وتصديق الإقرار بالقول والعمل بالقلب واللسان والجوارح) وهم مع تصديقهم بالغيب يحافظون على أداء الصلاة في مواقيتها أداءً صحيحًا وَفْق ما شرع الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومما أعطيناهم من المال يخرجون صدقة أموالهم الواجبة والمستحبة.
( 4 ) والذين يُصَدِّقون بما أُنزل إليك أيها الرسول من القرآن، وبما أنزل إليك من الحكمة، وهي السنة، وبكل ما أُنزل مِن قبلك على الرسل من كتب، كالتوراة والإنجيل وغيرهما، ويُصَدِّقون بدار الحياة بعد الموت وما فيها من الحساب والجزاء، تصديقا بقلوبهم يظهر على ألسنتهم وجوارحهم وخص يوم الآخرة؛ لأن الإيمان به من أعظم البواعث على فعل الطاعات، واجتناب المحرمات، ومحاسبة النفس.
( 6 ) إن الذين جحدوا ما أُنزل إليك من ربك استكبارًا وطغيانًا، لن يقع منهم الإيمان، سواء أخوَّفتهم وحذرتهم من عذاب الله، أم تركت ذلك؛ لإصرارهم على باطلهم.
( 7 ) طبع الله على قلوب هؤلاء وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غطاء؛ بسبب كفرهم وعنادهم مِن بعد ما تبيَّن لهم الحق، فلم يوفقهم للهدى، ولهم عذاب شديد في نار جهنم.
( 8 ) ومن الناس فريق يتردد متحيِّرًا بين المؤمنين والكافرين، وهم المنافقون الذين يقولون بألسنتهم: صدَّقْنَا بالله وباليوم الآخر، وهم في باطنهم كاذبون لم يؤمنوا.
( 9 ) يعتقدون بجهلهم أنهم يخادعون الله والذين آمنوا بإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر، وما يخدعون إلا أنفسهم؛ لأن عاقبة خداعهم تعود عليهم. ومِن فرط جهلهم لا يُحِسُّون بذلك؛ لفساد قلوبهم.
( 10 ) في قلوبهم شكٌّ وفساد فابْتُلوا بالمعاصي الموجبة لعقوبتهم، فزادهم الله شكًا، ولهم عقوبة موجعة بسبب كذبهم ونفاقهم.
( 11 ) وإذا نُصحوا ليكفُّوا عن الإفساد في الأرض بالكفر والمعاصي، وإفشاء أسرار المؤمنين، وموالاة الكافرين، قالوا كذبًا وجدالا إنما نحن أهل الإصلاح.
( 12 ) إنَّ هذا الذي يفعلونه ويزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد، لكنهم بسبب جهلهم وعنادهم لا يُحِسُّون.
( 13 ) وإذا قيل للمنافقين: آمِنُوا -مثل إيمان الصحابة، وهو الإيمان بالقلب واللسان والجوارح-، جادَلوا وقالوا: أَنُصَدِّق مثل تصديق ضعاف العقل والرأي، فنكون نحن وهم في السَّفَهِ سواء؟ فردَّ الله عليهم بأن السَّفَهَ مقصور عليهم، وهم لا يعلمون أن ما هم فيه هو الضلال والخسران.
( 14 ) هؤلاء المنافقون إذا قابلوا المؤمنين قالوا: صدَّقنا بالإسلام مثلكم، وإذا انصرفوا وذهبوا إلى زعمائهم الكفرة المتمردين على الله أكَّدوا لهم أنهم على ملة الكفر لم يتركوها، وإنما كانوا يَسْتَخِفُّون بالمؤمنين، ويسخرون منهم.
( 15 ) الله يستهزئ بهم ويُمهلهم؛ ليزدادوا ضلالا وحَيْرة وترددًا، ويجازيهم على استهزائهم بالمؤمنين.
( 16 ) أولئك المنافقون باعوا أنفسهم في صفقة خاسرة، فأخذوا الكفر، وتركوا الإيمان، فما كسبوا شيئًا، بل خَسِروا الهداية. وهذا هو الخسران المبين.
( 17 ) حال المنافقين الذين آمنوا -ظاهرًا لا باطنًا- برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ثم كفروا، فصاروا يتخبطون في ظلماتِ ضلالهم وهم لا يشعرون، ولا أمل لهم في الخروج منها، تُشْبه حالَ جماعة في ليلة مظلمة، وأوقد أحدهم نارًا عظيمة للدفء والإضاءة، فلما سطعت النار وأنارت ما حوله، انطفأت وأعتمت، فصار أصحابها في ظلمات لا يرون شيئًا، ولا يهتدون إلى طريق ولا مخرج.
( 18 ) هم صُمٌّ عن سماع الحق سماع تدبر، بُكْم عن النطق به، عُمْي عن إبصار نور الهداية؛ لذلك لا يستطيعون الرجوع إلى الإيمان الذي تركوه، واستعاضوا عنه بالضلال.
( 19 ) أو تُشْبه حالُ فريق آخر من المنافقين يظهر لهم الحق تارة، ويشكون فيه تارة أخرى، حالَ جماعة يمشون في العراء، فينصب عليهم مطر شديد، تصاحبه ظلمات بعضها فوق بعض، مع قصف الرعد، ولمعان البرق، والصواعق المحرقة، التي تجعلهم من شدة الهول يضعون أصابعهم في آذانهم؛ خوفًا من الهلاك. والله تعالى محيط بالكافرين لا يفوتونه ولا يعجزونه.
( 20 ) يقارب البرق -من شدة لمعانه- أن يسلب أبصارهم، ومع ذلك فكلَّما أضاء لهم مشَوْا في ضوئه، وإذا ذهب أظلم الطريق عليهم فيقفون في أماكنهم. ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم، وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ، إنه على كل شيء قدير.
( 21 ) نداء من الله للبشر جميعًا: أن اعبدوا الله الذي ربَّاكم بنعمه، وخافوه ولا تخالفوا دينه؛ فقد أوجدكم من العدم، وأوجد الذين من قبلكم؛ لتكونوا من المتقين الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه.
( 22 ) ربكم الذي جعل لكم الأرض بساطًا؛ لتسهل حياتكم عليها، والسماء محكمة البناء، وأنزل المطر من السحاب فأخرج لكم به من ألوان الثمرات وأنواع النبات رزقًا لكم، فلا تجعلوا لله نظراء في العبادة، وأنتم تعلمون تفرُّده بالخلق والرزق، واستحقاقِه العبودية.
( 23 ) وإن كنتم -أيها الكافرون المعاندون- في شَكٍّ من القرآن الذي نَزَّلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتزعمون أنه ليس من عند الله، فهاتوا سورة تماثل سورة من القرآن، واستعينوا بمن تقدرون عليه مِن أعوانكم، إن كنتم صادقين في دعواكم.
( 24 ) فإن عجَزتم الآن -وستعجزون مستقبلا لا محالة- فاتقوا النار بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وطاعة الله تعالى. هذه النار التي حَطَبُها الناس والحجارة، أُعِدَّتْ للكافرين بالله ورسله.
( 25 ) وأخبر -أيها الرسول- أهل الإيمان والعمل الصالح خبرًا يملؤهم سرورًا، بأن لهم في الآخرة حدائق عجيبة، تجري الأنهار تحت قصورها العالية وأشجارها الظليلة. كلَّما رزقهم الله فيها نوعًا من الفاكهة اللذيذة قالوا: قد رَزَقَنا الله هذا النوع من قبل، فإذا ذاقوه وجدوه شيئًا جديدًا في طعمه ولذته، وإن تشابه مع سابقه في اللون والمنظر والاسم. ولهم في الجنَّات زوجات مطهَّرات من كل ألوان الدنس الحسيِّ كالبول والحيض، والمعنوي كالكذب وسوء الخُلُق. وهم في الجنة ونعيمها دائمون، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها.
( 26 ) إن الله تعالى لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئًا ما، قلَّ أو كثر، ولو كان تمثيلا بأصغر شيء، كالبعوضة والذباب ونحو ذلك، مما ضربه الله مثلا لِعَجْز كل ما يُعْبَد من دون الله. فأما المؤمنون فيعلمون حكمة الله في التمثيل بالصغير والكبير من خلقه، وأما الكفار فَيَسْخرون ويقولون: ما مراد الله مِن ضَرْب المثل بهذه الحشرات الحقيرة؟ ويجيبهم الله بأن المراد هو الاختبار، وتمييز المؤمن من الكافر؛ لذلك يصرف الله بهذا المثل ناسًا كثيرين عن الحق لسخريتهم منه، ويوفق به غيرهم إلى مزيد من الإيمان والهداية. والله تعالى لا يظلم أحدًا؛ لأنه لا يَصْرِف عن الحق إلا الخارجين عن طاعته.
( 27 ) الذين ينكثون عهد الله الذي أخذه عليهم بالتوحيد والطاعة، وقد أكَّده بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ويخالفون دين الله كقطع الأرحام ونشر الفساد في الأرض، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
( 28 ) كيف تنكرون -أيُّها المشركون- وحدانية الله تعالى، وتشركون به غيره في العبادة مع البرهان القاطع عليها في أنفسكم؟ فلقد كنتم أمواتًا فأوجدكم ونفخ فيكم الحياة، ثم يميتكم بعد انقضاء آجالكم التي حددها لكم، ثم يعيدكم أحياء يوم البعث، ثم إليه ترجعون للحساب والجزاء.
( 29 ) اللهُ وحده الذي خَلَق لأجلكم كل ما في الأرض من النِّعم التي تنتفعون بها، ثم قصد إلى خلق السموات، فسوَّاهنَّ سبع سموات، وهو بكل شيء عليم. فعِلْمُه -سبحانه- محيط بجميع ما خلق.
( 30 ) واذكر -أيها الرسول- للناس حين قال ربك للملائكة: إني جاعل في الأرض قومًا يخلف بعضهم بعضًا لعمارتها. قالت: يا ربَّنا علِّمْنا وأَرْشِدْنا ما الحكمة في خلق هؤلاء، مع أنَّ من شأنهم الإفساد في الأرض واراقة الدماء ظلما وعدوانًا ونحن طوع أمرك، ننزِّهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك، ونمجِّدك بكل صفات الكمال والجلال؟ قال الله لهم: إني أعلم ما لا تعلمون من الحكمة البالغة في خلقهم.
( 31 ) وبيانًا لفضل آدم عليه السلام علَّمه الله أسماء الأشياء كلها، ثم عرض مسمياتها على الملائكة قائلا لهم: أخبروني بأسماء هؤلاء الموجودات، إن كنتم صادقين في أنكم أَوْلى بالاستخلاف في الأرض منهم.
( 32 ) قالت الملائكة: ننزِّهك يا ربَّنا، ليس لنا علم إلا ما علَّمتنا إياه. إنك أنت وحدك العليم بشئون خلقك، الحكيم في تدبيرك.
( 33 ) قال الله: يا آدم أخبرهم بأسماء هذه الأشياء التي عجَزوا عن معرفتها. فلما أخبرهم آدم بها، قال الله للملائكة: لقد أخبرتكم أني أعلم ما خفي عنكم في السموات والأرض، وأعلم ما تظهرونه وما تخفونه.
( 34 ) واذكر -أيها الرسول- للناس تكريم الله لآدم حين قال سبحانه للملائكة: اسجدوا لآدم إكرامًا له وإظهارًا لفضله، فأطاعوا جميعًا إلا إبليس امتنع عن السجود تكبرًا وحسدًا، فصار من الجاحدين بالله، العاصين لأمره.
( 35 ) وقال الله: يا آدم اسكن أنت وزوجك حواء الجنة، وتمتعا بثمارها تمتعًا هنيئًا واسعًا في أي مكان تشاءان فيها، ولا تقربا هذه الشجرة حتى لا تقعا في المعصية، فتصيرا من المتجاوزين أمر الله.
( 36 ) فأوقعهما الشيطان في الخطيئة: بأنْ وسوس لهما حتى أكلا من الشجرة، فتسبب في إخراجهما من الجنة ونعيمها. وقال الله لهم: اهبطوا إلى الأرض، يعادي بعضكم بعضًا -أي آدم وحواء والشيطان- ولكم في الأرض استقرار وإقامة، وانتفاع بما فيها إلى وقت انتهاء آجالكم.
( 37 ) فتلقى آدمُ بالقبول كلماتٍ، ألهمه الله إياها توبة واستغفارًا، وهي قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (7:23)} فتاب الله عليه، وغفر له ذنبه إنه تعالى هو التواب لمن تاب مِن عباده، الرحيم بهم.
( 38 ) قال الله لهم: اهبطوا من الجنة جميعًا، وسيأتيكم أنتم وذرياتكم المتعاقبة ما فيه هدايتكم إلى الحق. فمن عمل بها فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا.
( 39 ) والذين جحدوا وكذبوا بآياتنا المتلوة ودلائل توحيدنا، أولئك الذين يلازمون النار، هم فيها خالدون، لا يخرجون منها.
( 40 ) يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم، واشكروا لي، وأتموا وصيتي لكم: بأن تؤمنوا بكتبي ورسلي جميعًا، وتعملوا بشرائعي. فإن فعلتم ذلك أُتمم لكم ما وعدتكم به من الرحمة في الدنيا، والنجاة في الآخرة. وإيَّايَ -وحدي- فخافوني، واحذروا نقمتي إن نقضتم العهد، وكفرتم بي.
( 41 ) وآمنوا- يا بني إسرائيل- بالقرآن الذي أنزَلْتُه على محمد نبي الله ورسوله، موافقًا لما تعلمونه من صحيح التوراة، ولا تكونوا أول فريق من أهل الكتاب يكفر به، ولا تستبدلوا بآياتي ثمنًا قليلا من حطام الدنيا الزائل، وإياي وحدي فاعملوا بطاعتي واتركوا معصيتي.
( 42 ) ولا تخلِطوا الحق الذي بيَّنته لكم بالباطل الذي افتريتموه، واحذروا كتمان الحق الصريح من صفة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبكم، وأنتم تجدونها مكتوبة عندكم، فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم.
( 43 ) وادخلوا في دين الإسلام: بأن تقيموا الصلاة على الوجه الصحيح، كما جاء بها نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وتؤدوا الزكاة المفروضة على الوجه المشروع، وتكونوا مع الراكعين من أمته صلى الله عليه وسلم.
( 44 ) ما أقبح حالَكم وحالَ علمائكم حين تأمرون الناس بعمل الخيرات، وتتركون أنفسكم، فلا تأمرونها بالخير العظيم، وهو الإسلام، وأنتم تقرءون التوراة، التي فيها صفات محمد صلى الله عليه وسلم، ووجوب الإيمان به!! أفلا تستعملون عقولكم استعمالا صحيحًا؟
( 45 ) واستعينوا في كل أموركم بالصبر بجميع أنواعه، وكذلك الصلاة. وإنها لشاقة إلا على الخاشعين.
( 46 ) الذين يخشون الله ويرجون ما عنده، ويوقنون أنهم ملاقو ربِّهم جلَّ وعلا بعد الموت، وأنهم إليه راجعون يوم القيامة للحساب والجزاء.
( 47 ) يا ذرية يعقوب تذكَّروا نعمي الكثيرة عليكم، واشكروا لي عليها، وتذكروا أني فَضَّلْتكم على عالَمي زمانكم بكثرة الأنبياء، والكتب المنزَّلة كالتوراة والإنجيل.
( 48 ) وخافوا يوم القيامة، يوم لا يغني أحد عن أحد شيئًا، ولا يقبل الله شفاعة في الكافرين، ولا يقبل منهم فدية، ولو كانت أموال الأرض جميعًا، ولا يملك أحد في هذا اليوم أن يتقدم لنصرتهم وإنقاذهم من العذاب.
( 49 ) واذكروا نعمتنا عليكم حين أنقذناكم من بطش فرعون وأتباعه، وهم يُذيقونكم أشدَّ العذاب، فيُكثِرون مِن ذَبْح أبنائكم، وترك بناتكم للخدمة والامتهان. وفي ذلك اختبار لكم من ربكم، وفي إنجائكم منه نعمة عظيمة، تستوجب شكر الله تعالى في كل عصوركم وأجيالكم.
( 50 ) واذكروا نعمتنا عليكم، حين فَصَلْنا بسببكم البحر، وجعلنا فيه طرقًا يابسةً، فعبرتم، وأنقذناكم من فرعون وجنوده، ومن الهلاك في الماء. فلما دخل فرعون وجنوده طرقكم أهلكناهم في الماء أمام أعينكم.
( 51 ) واذكروا نعمتنا عليكم: حين واعدنا موسى أربعين ليلة لإنزال التوراة هدايةً ونورًا لكم، فإذا بكم تنتهزون فرصة غيابه هذه المدة القليلة، وتجعلون العجل الذي صنعتموه بأيديكم معبودًا لكم من دون الله - وهذا أشنع الكفر بالله- وأنتم ظالمون باتخاذكم العجل إلهًا.
( 52 ) ثمَّ تجاوزنا عن هذه الفعلة المنكرة، وقَبِلْنَا توبتكم بعد عودة موسى؛ رجاءَ أن تشكروا الله على نعمه وأفضاله، ولا تتمادوا في الكفر والطغيان.
( 53 ) واذكروا نعمتنا عليكم حين أعطينا موسى الكتاب الفارق بين الحق والباطل -وهو التوراة-؛ لكي تهتدوا من الضلالة.
( 54 ) واذكروا نعمتنا عليكم حين قال موسى لقومه: إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهًا، فتوبوا إلى خالقكم: بأن يَقْتل بعضكم بعضًا، وهذا خير لكم عند خالقكم من الخلود الأبدي في النار، فامتثلتم ذلك، فمنَّ الله عليكم بقَبول توبتكم. إنه تعالى هو التواب لمن تاب مِن عباده، الرحيم بهم.
( 55 ) واذكروا إذ قلتم: يا موسى لن نصدقك في أن الكلام الذي نسمعه منك هو كلام الله، حتى نرى الله عِيَانًا، فنزلت نار من السماء رأيتموها بأعينكم، فقَتَلَتْكم بسبب ذنوبكم، وجُرْأتكم على الله تعالى.
( 56 ) ثم أحييناكم مِن بعد موتكم بالصاعقة؛ لتشكروا نعمة الله عليكم، فهذا الموت عقوبة لهم، ثم بعثهم الله لاستيفاء آجالهم.
( 57 ) واذكروا نعمتنا عليكم حين كنتم تتيهون في الأرض؛ إذ جعلنا السحاب مظللا عليكم من حَرِّ الشمس، وأنزلنا عليكم المنَّ، وهو شيء يشبه الصَّمغ طعمه كالعسل، وأنزلنا عليكم السَّلوى وهو طير يشبه السُّمانَى، وقلنا لكم: كلوا من طيِّبات ما رزقناكم، ولا تخالفوا دينكم، فلم تمتثلوا. وما ظلمونا بكفران النعم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون؛ لأن عاقبة الظلم عائدة عليهم.
( 58 ) واذكروا نعمتنا عليكم حين قلنا: ادخلوا مدينة "بيت المقدس" فكلوا من طيباتها في أي مكان منها أكلا هنيئًا، وكونوا في دخولكم خاضعين لله، ذليلين له، وقولوا: ربَّنا ضَعْ عنَّا ذنوبنا، نستجب لكم ونعف ونسترها عليكم، وسنزيد المحسنين بأعمالهم خيرًا وثوابًا.
( 59 ) فبدَّل الجائرون الضالون من بني إسرائيل قول الله، وحرَّفوا القول والفعل جميعًا، إذ دخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا: حبة في شعرة، واستهزءوا بدين الله. فأنزل الله عليهم عذابًا من السماء؛ بسبب تمردهم وخروجهم عن طاعة الله.
( 60 ) واذكروا نعمتنا عليكم -وأنتم عطاش في التِّيْه- حين دعانا موسى -بضراعة- أن نسقي قومه، فقلنا: اضرب بعصاك الحجر، فضرب، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، بعدد القبائل، مع إعلام كل قبيلة بالعين الخاصة بها حتى لا يتنازعوا. وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله، ولا تسعوا في الأرض مفسدين.
( 61 ) واذكروا حين أنزلنا عليكم الطعام الحلو، والطير الشهي، فبطِرتم النعمة كعادتكم، وأصابكم الضيق والملل، فقلتم: يا موسى لن نصبر على طعام ثابت لا يتغير مع الأيام، فادع لنا ربك يخرج لنا من نبات الأرض طعامًا من البقول والخُضَر، والقثاء والحبوب التي تؤكل، والعدس، والبصل. قال موسى -مستنكرًا عليهم-: أتطلبون هذه الأطعمة التي هي أقل قدرًا، وتتركون هذا الرزق النافع الذي اختاره الله لكم؟ اهبطوا من هذه البادية إلى أي مدينة، تجدوا ما اشتهيتم كثيرًا في الحقول والأسواق. ولما هبطوا تبيَّن لهم أنهم يُقَدِّمون اختيارهم -في كل موطن- على اختيار الله، ويُؤْثِرون شهواتهم على ما اختاره الله لهم؛ لذلك لزمتهم صِفَةُ الذل وفقر النفوس، وانصرفوا ورجعوا بغضب من الله؛ لإعراضهم عن دين الله، ولأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين ظلمًا وعدوانًا؛ وذلك بسبب عصيانهم وتجاوزهم حدود ربهم.
( 62 ) إن المؤمنين من هذه الأمة، الذين صدَّقوا بالله ورسله، وعملوا بشرعه، والذين كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من الأمم السالفة من اليهود، والنصارى، والصابئين- وهم قوم باقون على فطرتهم، ولا دين مقرر لهم يتبعونه- هؤلاء جميعًا إذا صدَّقوا بالله تصديقًا صحيحًا خالصًا، وبيوم البعث والجزاء، وعملوا عملا مرضيًا عند الله، فثوابهم ثابت لهم عند ربهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من أمور الدنيا. وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم خاتمًا للنبيين والمرسلين إلى الناس كافة، فلا يقبل الله من أحد دينًا غير ما جاء به، وهو الإسلام.
( 63 ) واذكروا -يا بني إسرائيل- حين أَخَذْنا العهد المؤكَّد منكم بالإيمان بالله وإفراده بالعبادة، ورفعنا جبل الطور فوقكم، وقلنا لكم: خذوا الكتاب الذي أعطيناكم بجدٍ واجتهاد واحفظوه، وإلا أطبقنا عليكم الجبل، ولا تنسوا التوراة قولا وعملا كي تتقوني وتخافوا عقابي.
( 64 ) ثم خالفتم وعصيتم مرة أخرى، بعد أَخْذِ الميثاق ورَفْع الجبل كشأنكم دائمًا. فلولا فَضْلُ الله عليكم ورحمته بالتوبة، والتجاوز عن خطاياكم، لصرتم من الخاسرين في الدنيا والآخرة.
( 65 ) ولقد علمتم -يا معشر اليهود- ما حلَّ من البأس بأسلافكم من أهل القرية التي عصت الله، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت، فاحتالوا لاصطياد السمك في يوم السبت، بوضع الشِّباك وحفر البِرَك، ثم اصطادوا السمك يوم الأحد حيلة إلى المحرم، فلما فعلوا ذلك، مسخهم الله قردة منبوذين.
( 66 ) فجعلنا هذه القرية عبرة لمن بحضرتها من القرى، يبلغهم خبرها وما حلَّ بها، وعبرة لمن يعمل بعدها مثل تلك الذُّنوب، وجعلناها تذكرة للصالحين؛ ليعلموا أنهم على الحق، فيثبتوا عليه.
( 67 ) واذكروا يا بني إسرائيل جناية أسلافكم، وكثرة تعنتهم وجدالهم لموسى عليه الصلاة والسلام، حين قال لهم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، فقالوا -مستكبرين-: أتجعلنا موضعًا للسخرية والاستخفاف؟ فردَّ عليهم موسى بقوله: أستجير بالله أن أكون من المستهزئين.
( 68 ) قالوا: ادع لنا ربَّك يوضح لنا صفة هذه البقرة، فأجابهم: إن الله يقول لكم: صفتها ألا تكون مسنَّة هَرِمة، ولا صغيرة فَتِيَّة، وإنما هي متوسطة بينهما، فسارِعوا إلى امتثال أمر ربكم.
( 69 ) فعادوا إلى جدالهم قائلين: ادع لنا ربك يوضح لنا لونها. قال: إنه يقول: إنها بقرة صفراء شديدة الصُّفْرة، تَسُرُّ مَن ينظر إليها.
( 70 ) قال بنو إسرائيل لموسى: ادع لنا ربك يوضح لنا صفات أخرى غير ما سبق؛ لأن البقر -بهذه الصفات- كثير فاشْتَبَهَ علينا ماذا نختار؟ وإننا -إن شاء الله- لمهتدون إلى البقرة المأمور بذبحها.
( 71 ) قال لهم موسى: إن الله يقول: إنها بقرة غير مذللة للعمل في حراثة الأرض للزراعة، وغير معدة للسقي من الساقية، وخالية من العيوب جميعها، وليس فيها علامة من لون غير لون جلدها. قالوا: الآن جئت بحقيقة وصف البقرة، فاضطروا إلى ذبحها بعد طول المراوغة، وقد قاربوا ألا يفعلوا ذلك لعنادهم. وهكذا شددوا فشدَّد الله عليهم.
( 72 ) واذكروا إذ قتلتم نفسًا فتنازعتم بشأنها، كلٌّ يدفع عن نفسه تهمة القتل، والله مخرج ما كنتم تخفون مِن قَتْل القتيل.
( 73 ) فقلنا: اضربوا القتيل بجزء من هذه البقرة المذبوحة، فإن الله سيبعثه حيًا، ويخبركم عن قاتله. فضربوه ببعضها فأحياه الله وأخبر بقاتله. كذلك يُحيي الله الموتى يوم القيامة، ويريكم- يا بني إسرائيل- معجزاته الدالة على كمال قدرته تعالى؛ لكي تتفكروا بعقولكم، فتمتنعوا عن معاصيه.
( 74 ) ولكنكم لم تنتفعوا بذلك؛ إذ بعد كل هذه المعجزات الخارقة اشتدت قلوبكم وغلظت، فلم يَنْفُذ إليها خير، ولم تَلِنْ أمام الآيات الباهرة التي أريتكموها، حتى صارت قلوبكم مثل الحجارة الصمَّاء، بل هي أشد منها غلظة؛ لأن من الحجارة ما يتسع وينفرج حتى تنصبَّ منه المياه صبًا، فتصير أنهارًا جاريةً، ومن الحجارة ما يتصدع فينشق، فتخرج منه العيون والينابيع، ومن الحجارة ما يسقط من أعالي الجبال مِن خشية الله تعالى وتعظيمه. وما الله بغافل عما تعملون.
( 75 ) أيها المسلمون أنسيتم أفعال بني إسرائيل، فطمعت نفوسكم أن يصدِّق اليهودُ بدينكم؟ وقد كان علماؤهم يسمعون كلام الله من التوراة، ثم يحرفونه بِصَرْفِه إلى غير معناه الصحيح بعد ما عقلوا حقيقته، أو بتحريف ألفاظه، وهم يعلمون أنهم يحرفون كلام رب العالمين عمدًا وكذبًا.
( 76 ) هؤلاء اليهود إذا لقوا الذين آمنوا قالوا بلسانهم: آمنَّا بدينكم ورسولكم المبشَّر به في التوراة، وإذا خلا بعض هؤلاء المنافقين من اليهود إلى بعض قالوا في إنكار: أتحدِّثون المؤمنين بما بيَّن الله لكم في التوراة من أمر محمد؛ لتكون لهم الحجة عليكم عند ربكم يوم القيامة؟ أفلا تفقهون فتحذروا؟
( 77 ) أيفعلون كلَّ هذه الجرائم، ولا يعلمون أن الله يعلم جميع ما يخفونه وما يظهرونه؟
( 78 ) ومن اليهود جماعة يجهلون القراءة والكتابة، ولا يعلمون التوراة وما فيها من صفات نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما عندهم من ذلك إلا أكاذيبُ وظنون فاسدة.
( 79 ) فهلاك ووعيد شديد لأحبار السوء من اليهود الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون: هذا من عند الله وهو مخالف لما أنزل الله على نبيِّه موسى عليه الصلاة والسلام؛ ليأخذوا في مقابل هذا عرض الدنيا. فلهم عقوبة مهلكة بسبب كتابتهم هذا الباطل بأيديهم، ولهم عقوبة مهلكة بسبب ما يأخذونه في المقابل من المال الحرام، كالرشوة وغيرها.
( 80 ) وقال بنو إسرائيل: لن تصيبنا النار في الآخرة إلا أيامًا قليلة العدد. قل لهم -أيها الرسول مبطلا دعواهم-: أعندكم عهد من الله بهذا، فإن الله لا يخلف عهده؟ بل إنكم تقولون على الله ما لا تعلمون بافترائكم الكذب.
( 81 ) فحُكْمُ الله ثابت: أن من ارتكب الآثام حتى جَرَّته إلى الكفر، واستولت عليه ذنوبه مِن جميع جوانبه وهذا لا يكون إلا فيمن أشرك بالله، فالمشركون والكفار هم الذين يلازمون نار جهنم ملازمة دائمةً لا تنقطع.
( 82 ) وحكم الله الثابتُ في مقابل هذا: أنَّ الذين صدَّقوا بالله ورسله تصديقًا خالصًا، وعملوا الأعمال المتفقة مع شريعة الله التي أوحاها إلى رسله، هؤلاء يلازمون الجنة في الآخرة ملازمةً دائمةً لا تنقطع.
( 83 ) واذكروا يا بني إسرائيل حين أخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا: بأن تعبدوا الله وحده لا شريك له، وأن تحسنوا للوالدين، وللأقربين، وللأولاد الذين مات آباؤهم وهم دون بلوغ الحلم، وللمساكين، وأن تقولوا للناس أطيب الكلام، مع أداء الصلاة وإيتاء الزكاة، ثم أَعْرَضْتم ونقضتم العهد -إلا قليلا منكم ثبت عليه- وأنتم مستمرون في إعراضكم.
( 84 ) واذكروا -يا بني إسرائيل- حين أَخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا في التوراة: يحرم سفك بعضكم دم بعض، وإخراج بعضكم بعضًا من دياركم، ثم اعترفتم بذلك، وأنتم تشهدون على صحته.
( 85 ) ثم أنتم يا هؤلاء يقتل بعضكم بعضًا، ويُخرج بعضكم بعضًا من ديارهم، ويَتَقَوَّى كل فريق منكم على إخوانه بالأعداء بغيًا وعدوانًا. وأن يأتوكم أسارى في يد الأعداء سعيتم في تحريرهم من الأسر، بدفع الفدية، مع أنه محرم عليكم إخراجهم من ديارهم. ما أقبح ما تفعلون حين تؤمنون ببعض أحكام التوراة وتكفرون ببعضها! فليس جزاء مَن يفعل ذلك منكم إلا ذُلا وفضيحة في الدنيا. ويوم القيامة يردُّهم الله إلى أفظع العذاب في النار. وما الله بغافل عما تعملون.
( 86 ) أولئك هم الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، فلا يخفف عنهم العذاب، وليس لهم ناصر ينصرهم مِن عذاب الله.
( 87 ) ولقد أعطينا موسى التوراة، وأتبعناه برسل من بني إسرائيل، وأعطينا عيسى ابن مريم المعجزات الواضحات، وقوَّيناه بجبريل عليه السلام. أفكلما جاءكم رسول بوحي من عند الله لا يوافق أهواءكم، استعليتم عليه، فكذَّبتم فريقًا وتقتلون فريقًا؟
( 88 ) وقال بنو إسرائيل لنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قلوبنا مغطاة، لا يَنْفُذ إليها قولك. وليس الأمر كما ادَّعَوْا، بل قلوبهم ملعونة، مطبوع عليها، وهم مطرودون من رحمة الله بسبب جحودهم، فلا يؤمنون إلا إيمانًا قليلا لا ينفعهم.
( 89 ) وحين جاءهم القرأن من عند الله مصدقا لما معهم من التوراة جحدوه، وأنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكانوا قبل بعثته يستنصرون به على مشركي العرب، ويقولون: قَرُبَ مبعث نبيِّ آخرِ الزمان، وسنتبعه ونقاتلكم معه. فلمَّا جاءهم الرسول الذي عرفوا صفاتِه وصِدْقَه كفروا به وكذبوه. فلعنةُ الله على كل مَن كفر بنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وكتابه الذي أوحاه الله إليه.
( 90 ) قَبُحَ ما اختاره بنو إسرائيل لأنفسهم؛ إذ استبدلوا الكفر بالإيمان ظلمًا وحسدًا لإنزال الله من فضله القرآن على نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فرجعوا بغضب من الله عليهم بسبب جحودهم بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، بعد غضبه عليهم بسبب تحريفهم التوراة. وللجاحدين نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم عذابٌ يذلُّهم ويخزيهم.
( 91 ) وإذا قال بعض المسلمين لليهود: صدِّقوا بما أنزل الله من القرآن، قالوا: نحن نصدِّق بما أنزل الله على أنبيائنا، ويجحدون ما أنزل الله بعد ذلك، وهو الحق مصدقًا لما معهم. فلو كانوا يؤمنون بكتبهم حقًا لآمنوا بالقرآن الذي صدَّقها. قل لهم -يا محمد-: إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله عليكم، فلماذا قتلتم أنبياء الله مِن قبل؟
( 92 ) ولقد جاءكم نبي الله موسى بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقه، كالطوفان والجراد والقُمَّل والضفادع، وغير ذلك مما ذكره الله في القرآن العظيم، ومع ذلك اتخذتم العجل معبودًا، بعد ذهاب موسى إلى ميقات ربه، وأنتم متجاوزون حدود الله.
( 93 ) واذكروا حين أَخَذْنا عليكم عهدًا مؤكدًا بقَبول ما جاءكم به موسى من التوراة، فنقضتم العهد، فرفعنا جبل الطور فوق رؤوسكم، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بجدٍّ، واسمعوا وأطيعوا، وإلا أسقطنا الجبل عليكم، فقلتم: سمعنا قولك وعصينا أمرك؛ لأن عبادة العجل قد امتزجت بقلوبكم بسبب تماديكم في الكفر. قل لهم -أيها الرسول-: قَبُحَ ما يأمركم به إيمانكم من الكفر والضلال، إن كنتم مصدِّقين بما أنزل الله عليكم.
( 94 ) قل -أيها الرسول- لليهود الذين يدَّعون أن الجنة خاصة بهم؛ لزعمهم أنهم أولياء الله من دون الناس، وأنهم أبناؤه وأحباؤه: إن كان الأمر كذلك فادْعُوا على الكاذبين منكم أو من غيركم بالموت، إن كنتم صادقين في دعواكم هذه.
( 95 ) ولن يفعلوا ذلك أبدًا؛ لما يعرفونه من صدق النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومن كذبهم وافترائهم، وبسبب ما ارتكبوه من الكفر والعصيان، المؤَدِّيَيْن إلى حرمانهم من الجنة ودخول النار. والله تعالى عليم بالظالمين من عباده، وسيجازيهم على ذلك.
( 96 ) ولتعلمَنَّ -أيها الرسول- أن اليهود أشد الناس رغبة في طول الحياة أيًّا كانت هذه الحياة من الذلَّة والمهانة، بل تزيد رغبتهم في طول الحياة على رغبات المشركين. يتمنى اليهودي أن يعيش ألف سنة، ولا يُبْعده هذا العمر الطويل إن حصل من عذاب الله. والله تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم وسيجازيهم عليها بما يستحقون من العذاب.
( 97 ) قل-أيها الرسول- لليهود حين قالوا: إن جبريل هو عدونا من الملائكة: من كان عدوًا لجبريل فإنه نزَّل القرآن على قلبك بإذن الله تعالى مصدِّقًا لما سبقه من كتب الله، وهاديًا إلى الحق، ومبشرًا للمصدِّقين به بكل خير في الدنيا والآخرة.
( 98 ) من عادى الله وملائكته، ورسله من الملائكة أو البشر، وبخاصة المَلَكان جبريلُ وميكالُ؛ لأن اليهود زعموا أن جبريل عدوهم، وميكال وليُّهم، فأعلمهم الله أنه من عادى واحدًا منهما فقد عادى الآخر، وعادى الله أيضًا، فإن الله عدو للجاحدين ما أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
( 102 ) واتبع اليهود ما تُحَدِّث الشياطينُ به السحرةَ على عهد ملك سليمان بن داود. وما كفر سليمان وما تَعَلَّم السِّحر، ولكنَّ الشياطين هم الذين كفروا بالله حين علَّموا الناس السحر؛ إفسادًا لدينهم. وكذلك اتبع اليهود السِّحر الذي أُنزل على الملَكَين هاروت وماروت، بأرض "بابل" في "العراق"؛ امتحانًا وابتلاء من الله لعباده، وما يعلِّم الملكان من أحد حتى ينصحاه ويحذِّراه من تعلم السحر، ويقولا له: لا تكفر بتعلم السِّحر وطاعة الشياطين. فيتعلم الناس من الملكين ما يُحْدِثون به الكراهية بين الزوجين حتى يتفرقا. ولا يستطيع السحرة أن يضروا به أحدًا إلا بإذن الله وقضائه. وما يتعلم السحرة إلا شرًا يضرهم ولا ينفعهم، وقد نقلته الشياطين إلى اليهود، فشاع فيهم حتى فضَّلوه على كتاب الله. ولقد علم اليهود أن من اختار السِّحر وترك الحق ما له في الآخرة من نصيب في الخير. ولبئس ما باعوا به أنفسهم من السحر والكفر عوضًا عن الإيمان ومتابعة الرسول، لو كان لهم عِلْمٌ يثمر العمل بما وُعِظوا به.
( 103 ) ولو أن اليهود آمنوا وخافوا الله لأيقنوا أن ثواب الله خير لهم من السِّحر ومما اكتسبوه به، لو كانوا يعلمون ما يحصل بالإيمان والتقوى من الثواب والجزاء علما حقيقيا لآمنوا.
( 104 ) يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: راعنا، أي: راعنا سمعك، فافهم عنا وأفهمنا؛ لأن اليهود كانوا يقولونها للنبي صلى الله عليه وسلم يلوون ألسنتهم بها، يقصدون سبَّه ونسبته إلى الرعونة، وقولوا- أيها المؤمنون- بدلا منها: انظرنا، أي انظر إلينا وتعهَّدْنا، وهي تؤدي المعنى المطلوب نفسه واسمعوا ما يتلى عليكم من كتاب ربكم وافهموه. وللجاحدين عذاب موجع.
( 105 ) ما يحب الكفار من أهل الكتاب والمشركين أن يُنزَّل عليكم أدنى خير من ربكم قرآنًا أو علمًا، أو نصرًا أو بشارة. والله يختص برحمته مَن يشاء مِن عباده بالنبوة والرسالة. والله ذو العطاء الكثير الواسع.
106 ) ما نبدِّل من آية أو نُزِلها من القلوب والأذهان نأت بأنفع لكم منها، أو نأت بمثلها في التكليف والثواب، ولكلٍ حكمة. ألم تعلم -أيها النبي- أنت وأمتك أن الله قادر لا يعجزه شيء؟
( 107 ) أما علمتَ -أيها النبي- أنت وأمتك أن الله تعالى هو المالك المتصرف في السموات والأرض؟ يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويأمر عباده وينهاهم كيفما شاء، وعليهم الطاعة والقَبول. وليعلم من عصى أن ليس لأحد من دون الله من وليٍّ يتولاهم، ولا نصير يمنعهم من عذاب الله.
( 108 ) بل أتريدون- أيها الناس- أن تطلبوا من رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم أشياء بقصد العناد والمكابرة، كما طُلِبَ مثل ذلك من موسى. علموا أن من يختر الكفر ويترك الإيمان فقد خرج عن صراط الله المستقيم إلى الجهل والضَّلال.
( 109 ) تمنى كثير من أهل الكتاب أن يرجعوكم بعد إيمانكم كفارًا كما كنتم من قبلُ تعبدون الأصنام؛ بسبب الحقد الذي امتلأت به نفوسهم من بعد ما تبيَّن لهم صدق نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، فتجاوزوا عمَّا كان منهم من إساءة وخطأ، واصفحوا عن جهلهم، حتى يأتي الله بحكمه فيهم بقتالهم (وقد جاء ووقع)، وسيعاقبهم لسوء أفعالهم. إن الله على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.
( 110 ) واشتغلوا -أيها المؤمنون- بأداء الصلاة على وجهها الصحيح، وإعطاء الزكاة المفروضة. واعلموا أنَّ كل خير تقدمونه لأنفسكم تجدون ثوابه عند الله في الآخرة. إنه تعالى بصير بكل أعمالكم، وسيجازيكم عليها.
( 111 ) ادَّعى كلٌّ من اليهود والنصارى أن الجنة خاصة بطائفته لا يدخلها غيرهم، تلك أوهامهم الفاسدة. قل لهم -أيها الرسول-: أحضروا دليلكم على صحة ما تدَّعون إن كنتم صادقين في دعواكم.
( 112 ) ليس الأمر كما زعموا أنَّ الجنة تختص بطائفة دون غيرها، وإنما يدخل الجنَّة مَن أخلص لله وحده لا شريك له، وهو متبع للرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كل أقواله وأعماله. فمن فعل ذلك فله ثواب عمله عند ربه في الآخرة، وهو دخول الجنة، وهم لا يخافون فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.
( 113 ) وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من الدين الصحيح، وكذلك قالت النصارى في اليهود وهم يقرؤون التوراة والإنجيل، وفيهما وجوب الإيمان بالأنبياء جميعًا. كذلك قال الذين لا يعلمون من مشركي العرب وغيرهم مثل قولهم، أي قالوا لكل ذي دين: لست على شيء، فالله يفصل بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه مِن أمر الدين، ويجازي كلا بعمله.
( 114 ) لا أحد أظلم من الذين منعوا ذِكْرَ الله في المساجد من إقام الصلاة، وتلاوة القرآن، ونحو ذلك، وجدُّوا في تخريبها بالهدم أو الإغلاق، أو بمنع المؤمنين منها. أولئك الظالمون ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا المساجد إلا على خوف ووجل من العقوبة، لهم بذلك صَغار وفضيحة في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب شديد.
( 115 ) ولله جهتا شروق الشمس وغروبها وما بينهما، فهو مالك الأرض كلها. فأي جهة توجهتم إليها في الصلاة بأمر الله لكم فإنكم مبتغون وجهه، لم تخرجوا عن ملكه وطاعته. إن الله واسع الرحمة بعباده، عليم بأفعالهم، لا يغيب عنه منها شيء.
( 116 ) وقالت اليهود والنصارى والمشركون: اتخذ الله لنفسه ولدًا، تنزَّه الله -سبحانه- عن هذا القول الباطل، بل كل مَن في السموات والأرض ملكه وعبيده، وهم جميعًا خاضعون له، مسخَّرون تحت تدبيره.
( 117 ) والله تعالى هو خالق السموات والأرض على غير مثال سبق. وإذا قدَّر أمرًا وأراد كونه فإنما يقول له: "كن" فيكون.
( 118 ) وقال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم لنبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم على سبيل العناد: هلا يكلمنا الله مباشرة ليخبرنا أنك رسوله، أو تأتينا معجزة من الله تدل على صدقك. ومثل هذا القول قالته الأمم من قبلُ لرسلها عنادًا ومكابرة؛ بسبب تشابه قلوب السابقين واللاحقين في الكفر والضَّلال، قد أوضحنا الآيات للذين يصدِّقون تصديقًا جازمًا؛ لكونهم مؤمنين بالله تعالى، متَّبعين ما شرعه لهم.
( 119 ) إنا أرسلناك -أيها الرسول- بالدين الحق المؤيد بالحجج والمعجزات، فبلِّغه للناس مع تبشير المؤمنين بخيري الدنيا والآخرة، وتخويف المعاندين بما ينتظرهم من عذاب الله، ولست -بعد البلاغ- مسئولا عن كفر مَن كفر بك؛ فإنهم يدخلون النار يوم القيامة، ولا يخرجون منها.
( 120 ) ولن ترضى عنك -أيها الرسول- اليهود ولا النصارى إلا إذا تركت دينك واتبعتَ دينهم. قل لهم: إن دين الإسلام هو الدين الصحيح. ولئن اتبعت أهواء هؤلاء بعد الذي جاءك من الوحي ما لك عند الله مِن وليٍّ ينفعك، ولا نصير ينصرك. هذا موجه إلى الأمّة عامة وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم.
( 121 ) الذين أعطيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يقرؤونه القراءة الصحيحة، ويتبعونه حق الاتباع، ويؤمنون بما جاء فيه من الإيمان برسل الله، ومنهم خاتمهم نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يحرفون ولا يبدِّلون ما جاء فيه. هؤلاء هم الذين يؤمنون بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، وأما الذين بدَّلوا بعض الكتاب وكتموا بعضه، فهؤلاء كفار بنبي الله محمد صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه، ومن يكفر به فأولئك هم أشد الناس خسرانًا عند الله.
( 122 ) يا ذرية يعقوب اذكروا نعمي الكثيرة عليكم، وأني فَضَّلتكم على عالَمي زمانكم بكثرة أنبيائكم، وما أُنزل عليهم من الكتب.
( 123 ) وخافوا أهوال يوم الحساب إذ لا تغني نفس عن نفس شيئًا، ولا يقبل الله منها فدية تنجيها من العذاب، ولا تنفعها وساطة، ولا أحد ينصرها.
( 124 ) واذكر-أيها النبي- حين اختبر الله إبراهيم بما شرع له من تكاليف، فأدَّاها وقام بها خير قيام. قال الله له: إني جاعلك قدوة للناس. قال إبراهيم: ربِّ اجعل بعض نسلي أئمة فضلا منك، فأجابه الله سبحانه أنه لا تحصل للظالمين الإمامةُ في الدين.
( 125 ) واذكر -أيها النبي- حين جعلنا الكعبة مرجعًا للناس، يأتونه، ثم يرجعون إلى أهليهم، ثم يعودون إليه، ومجمعًا لهم في الحج والعمرة والطواف والصلاة، وأمنًا لهم، لا يُغِير عليهم عدو فيه. وقلنا: اتخِذوا من مقام إبراهيم مكانًا للصلاة فيه، وهو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عند بنائه الكعبة. وأوحينا إلى إبراهيم وابنه إسماعيل: أن طهِّرا بيتي من كل رجس ودنس؛ للمتعبدين فيه بالطواف حول الكعبة، أو الاعتكاف في المسجد، والصلاة فيه.
( 126 ) واذكر -أيها النبي- حين قال إبراهيم داعيًا: ربِّ اجعل "مكة" بلدًا آمنًا من الخوف، وارزق أهله من أنواع الثمرات، وخُصَّ بهذا الرزق مَن آمن منهم بالله واليوم الآخر. قال الله: ومن كفر منهم فأرزقه في الدنيا وأُمتعه متاعًا قليلا ثم أُلجئُه مرغمًا إلى عذاب النار. وبئس المرجع والمقام هذا المصير.
127 ) واذكر -أيها النبي- حين رفع إبراهيم وإسماعيل أسس الكعبة، وهما يدعوان الله في خشوع: ربنا تقبل منَّا صالح أعمالنا ودعاءنا، إنك أنت السميع لأقوال عبادك، العليم بأحوالهم.
( 128 ) ربنا واجعلنا ثابتَيْن على الإسلام، منقادَيْن لأحكامك، واجعل من ذريتنا أمة منقادة لك، بالإيمان، وبصِّرْنا بمعالم عبادتنا لك، وتجاوز عن ذنوبنا. إنك أنت كثير التوبة والرحمة لعبادك.
( 129 ) ربنا وابعث في هذه الأمة رسولا من ذرية إسماعيل يتلو عليهم آياتك ويعلمهم القرآن والسنة، ويطهرهم من الشرك وسوء الأخلاق. إنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.
( 130 ) ولا أحد يُعرض عن دين إبراهيم -وهو الإسلام- إلا سفيه جاهل، ولقد اخترنا إبراهيم في الدنيا نبيًّا ورسولا وإنه في الآخرة لمن الصالحين الذين لهم أعلى الدرجات.
( 131 ) وسبب هذا الاختيار مسارعته للإسلام دون تردد، حين قال له ربه: أخلص نفسك لله منقادًا له. فاستجاب إبراهيم وقال: أسلمت لرب العالمين إخلاصًا وتوحيدًا ومحبة وإنابة.
( 132 ) وحثَّ إبراهيمُ ويعقوبُ أبناءهما على الثبات على الإسلام قائلَيْن: يا أبناءنا إن الله اختار لكم هذا الدين- وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم- فلا تفارقوه أيام حياتكم، ولا يأتكم الموت إلا وأنتم عليه.
( 133 ) أكنتم أيها اليهود حاضرين حين جاء الموتُ يعقوبَ، إذ جمع أبناءه وسألهم ما تعبدون من بعد موتي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهًا واحدًا، ونحن له منقادون خاضعون.
( 134 ) تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ، لهم أعمالهم، ولكم أعمَالكم، ولا تُسْألون عن أعمالهم، وهم لا يُسْألون عن أعمالكم، وكلٌّ سيجازى بما فعله، لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، ولا ينفعُ أحدًا إلا إيمانُه وتقواه.
135 ) وقالت اليهود لأمَّة محمد صلى الله عليه وسلم: ادخلوا في دين اليهودية تجدوا الهداية، وقالت النصارى لهم مثل ذلك. قل لهم -أيها الرسول-: بل الهداية أن نتبع- جميعًا- ملة إبراهيم، الذي مال عن كل دين باطل إلى دين الحق، وما كان من المشركين بالله تعالى.
( 136 ) قولوا -أيها المؤمنون- لهؤلاء اليهود والنَّصارى: صدَّقنا بالله الواحد المعبود بحق، وبما أنزل إلينا من القرآن الذي أوحاه الله إلى نبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وما أنزل من الصحف إلى إبراهيم وابنيه إسماعيل وإسحاق، وإلى يعقوب والأسباط -وهم الأنبياء مِن ولد يعقوب الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة- وما أُعطي موسى من التوراة، وعيسى من الإنجيل، وما أُعطي الأنبياء جميعًا من وحي ربهم، لا نفرق بين أحد منهم في الإيمان، ونحن خاضعون لله بالطاعة والعبادة.
( 137 ) فإنْ آمن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم بمثل الذي آمنتم به، مما جاء به الرسول، فقد اهتدوا إلى الحق، وإن أعرضوا فإنما هم في خلاف شديد، فسيكفيك الله -أيها الرسول- شرَّهم وينصرك عليهم، وهو السميع لأقوالكم، العليم بأحوالكم.
( 138 ) الزموا دين الله الذي فطركم عليه، فليس هناك أحسنُ مِن فطرة الله التي فطر الناس عليها، فالزموها وقولوا نحن خاضعون مطيعون لربنا في اتباعنا ملَّة إبراهيم.
( 139 ) قل -أيها الرسول لأهل الكتاب-: أتجادلوننا في توحيد الله والإخلاص له، وهو رب العالمين جميعًا، لا يختص بقوم دون قوم، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم، ونحن لله مخلصو العبادة والطَّاعة لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد أحدًا غيره.
( 140 ) بل أتقولون مجادلين في الله: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط- وهم الأنبياء الذين كانوا في قبائل بني إسرائيل الاثنتي عشرة من ولد يعقوب- كانوا على دين اليهود أو النصارى؟ وهذا كذب؛ فقد بُعِثوا وماتوا قبل نزول التوراة والإنجيل. قل لهم -أيها الرسول-: أأنتم أعلم بدينهم أم الله تعالى؟ وقد أخبر في القرآن بأنهم كانوا حنفاء مسلمين، ولا أحد أظلم منكم حين تخفون شهادة ثابتة عندكم من الله تعالى، وتدَّعون خلافها افتراء على الله. وما الله بغافل عن شيء من أعمالكم، بل هو مُحْصٍ لها ومجازيكم عليها.
( 141 ) تلك أُمَّة من أسلافكم قد مضَتْ، لهم أعمالهم ولكم أعمالكم، ولا تُسْألون عن أعمالهم، وهم لا يُسْألون عن أعمالكم. وفي الآية قطع للتعلق بالمخلوقين، وعدم الاغترار بالانتساب إليهم، وأن العبرة بالإيمان بالله وعبادته وحده، واتباع رسله، وأن من كفر برسول منهم فقد كفر بسائر الرسل.