يعد أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية التي ظلت خمسة قرون زينة الدنيا، ومركز الحضارة، وموئل الثقافة، وعاصمة العالم. نهض إلى الخلافة بعد أن أصقلته التجارب وأنضجته المحن، وخَبِر الناس وعاشرهم ووقف على دواخلهم وخلائقهم، وما إن أمسك بزمام الأمور حتى نجح في التغلب على مواجهة صعاب وعقبات توهن عزائم الرجال وتضعف ثبات الأبطال، وتبعث اليأس والقنوط في النفوس. وكانت مصلحة الدولة شغله الشاغل، فأحكمت خطوه وأحسنت تدبيره، وفجرت في نفسه طاقات هائلة من التحدي، فأقام دولته باليقظة الدائمة والمثابرة الدائبة والسياسة الحكيمة.
مولده ونشأته
في قرية "الحميمة" التي تقع جنوب الشام ولد عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس سنة (95هـ = 714م)، ونشأ بين كبار رجال بني هاشم الذين كانوا يسكنون الحميمة، فشب فصيحا عالما بالسير والأخبار، ملما بالشعر والنثر. وكان أبوه محمد بن علي هو الذي نظّم الدعوة العباسية، وخرج بها إلى حيز الوجود، واستعان في تحركه بالسرية والكتمان، والدقة في اختيار الرجال والأنصار والأماكن التي يتحرك فيها الدعاة، حيث اختار الحميمة والكوفة وخراسان.
وحين نجحت الدعوة العباسية وأطاحت بالدولة الأموية؛ تولى أبو العباس السفّاح الخلافة سنة (132هـ = 749) واستعان بأخيه جعفر في محاربة أعدائه والقضاء على خصومه وتصريف شئون الدولة، وكان عند حسن ظنه قدرة وكفاءة فيما تولى، حتى إذا مرض أوصى له بالخلافة من بعده، فوليها في (ذي الحجة 136هـ = يونيو 754م) وهو في الحادية والأربعين من عمره.
المنصور وبناء بغداد
رغب الخليفة أبو جعفر المنصور في بناء عاصمة جديدة لدولته بعيدة عن المدن التي يكثر فيها الخروج على الخلافة كالكوفة والبصرة، وتتمتع باعتدال المناخ وحسن الموقع، فاختار "بغداد" على شاطئ دجلة، ووضع بيده أول حجر في بنائها سنة (145هـ = 762م) واستخدم عددا من كبار المهندسين للإشراف على بنائها، وجلب إليها أعدادا هائلة من البنائين والصناع، فعملوا بجد وهمة حتى فرغوا منها في عام (149هـ = 766م) وانتقل إليها الخليفة وحاشيته ومعه دواوين الدولة، وأصبحت منذ ذلك الحين عاصمة الدولة العباسية، وأطلق عليها مدينة السلام؛ تيمنا بدار السلام وهو اسم من أسماء الجنة، أو نسبة إلى نهر دجلة الذي يسمى نهر السلام. ولم يكتف المنصور بتأسيس المدينة على الضفة الغربية لدجلة، بل عمل على توسيعها سنة (151هـ = 768م) بإقامة مدينة أخرى على الجانب الشرقي سماها الرصافة، جعلها مقرا لابنه وولي عهده "المهدي" وشيد لها سورا وخندقا ومسجدا وقصرا، ثم لم تلبث أن عمرت الرصافة واتسعت وزاد إقبال الناس على سكناها.
بيت الحكمة
ومن الأعمال الجليلة التي تُذكر للمنصور عنايته بنشر العلوم المختلفة، ورعايته للعلماء من المسلمين وغيرهم، وقيامه بإنشاء "بيت الحكمة" في قصر الخلافة ببغداد، وإشرافه عليه بنفسه، ليكون مركزا للترجمة إلى اللغة العربية. وقد أرسل أبو جعفر إلى إمبراطور الروم يطلب منه بعض كتب اليونان فبعث إليه بكتب في الطب والهندسة والحساب والفلك، فقام نفر من المترجمين بنقلها إلى العربية.
وقد بلغ نشاط بيت الحكمة ذروته في عهد الخليفة المأمون الذي أولاه عناية فائقة، ووهبه كثيرا من ماله ووقته، وكان يشرف على بيت الحكمة قيّم يدير شئونه، ويُختار من بين العلماء المتمكنين من اللغات. وضم بيت الحكمة إلى جانب المترجمين النسّاخين والخازنين الذين يتولون تخزين الكتب، والمجلدين وغيرهم من العاملين. وظل بيت الحكمة قائما حتى داهم المغول بغداد سنة (656هـ = 1258م).
شخصية المنصور
كان الخليفة أبو جعفر المنصور رجل عمل وجد، لم يتخذ من منصبه وسيلة للعيشة المرفهة والانغماس في اللهو والاستمتاع بمباهج السلطة والنفوذ، يستغرق وقته النظر في شئون الدولة، ويستأثر بمعظم وقته أعباء الحكم.
وكان يعرف قيمة المال وحرمته، فكان حريصا على إنفاقه فيما ينفع الناس؛ ولذلك عني بالقليل منه كما عني بالكثير، ولم يتوان عن محاسبة عماله على المبلغ الزهيد، ولا يتردد في أن يرسل إليهم التوجيهات والتوصيات التي من شأنها أن تزيد في دخول الدولة، وكان يمقت أي لون من ألوان تضييع المال دون فائدة، حتى اتهمه المؤرخون بالبخل والحرص، ولم يكن كذلك فالمال العام له حرمته ويجب إنفاقه في مصارفه المستحقة؛ ولذلك لم يكن يغض الطرف عن عماله إذا شك في أماناتهم من الناحية المالية بوجه خاص لأنه كان يرى أن المحافظة على أموال الدولة الواجب الأول للحاكم.
وشغل أبو جعفر وقته بمتابعة عماله على المدن والولايات، وكان يدقق في اختيارهم ويسند إليهم المهام، وينتدب للخراج والشرطة والقضاء من يراه أهلا للقيام بها، وكان ولاة البريد في الآفاق يكتبون إلى المنصور بما يحدث في الولايات من أحداث، حتى أسعار الغلال كانوا يطلعونه عليها وكذلك أحكام القضاء. وقد مكنه هذا الأسلوب من أن يكون على بينة مما يحدث في ولايات دولته، وأن يحاسب ولاته إذا بدر منهم أي تقصير.